شروط توكيد الأفعال بنوني التوكيد الخفيفة والثقيلة :
أورد النحاةُ للتوكيدِ بالنونين شروطا وهي :
أولاً: الفعل الماضي:
لا يُؤكَّد بهما الفعل الماضي مطلقًا، ولو كان بمعنى الاستقبال، وأما قول الشاعر :
دَامَنَّ سَعْدُكَ إِنْ رَحِمْتَ مُتَيَّمًا
لَوْلاَكَ لَمْ يَكُ لِلصَّبَابَةِ جَانِحًا
فضرورة شاذَّة، سهَّلها مجيء "دامن" مفيدًا للمستقبل معنًى؛ لكونه دعاء، وإنما قرر النحاة عدمَ توكيد الماضي؛ لأنَّه قد فات، وتأكيد الفائِت يمتنع؛ لأنَّه حدَث وانتهى.
ثانيًا: الفعل الأمر:
يُؤكَّد الفعل الأمر بالنونين مطلقًا دون شروط؛ لأنَّه خالِص للمستقبل دائمًا، نحو (قومن).
ونحو قول عبد الله بن رواحة:
فثبت الأقدام إن لاقينا ... وأنزلن سكينة علينا
ثالثًا: الفِعل المضارع:
نونا التوكيد الثقيلة والخفيفة، تؤثِّران في الفِعل المضارع إذا أُكِّد بهما تأثيرين:
1- تأثيرًا لفظيًّا:
ونعني به: إخراجَ الفعل المضارع مِن الإعراب إلى البِناء، ويصير الفِعل بسبب دخولهما عليه مبنيًّا بعدَ أنْ كان معرَبًا.
2- تأثيرًا معنويًّا:
ونعني به: تخصيص الفِعل المضارِع بالاستقبال فقط بعدَ أنْ كان يصلُح للحال والاستقبال، والعلَّة في بناء الفِعل المضارع عندَ دخولهما عليه، أنَّ الأصل في الأفعال البناء، والفِعل المضارع إنما كان معربًا بسببِ مشابهته الاسم، ونونا التوكيد مِن خصائص الأفعال، فلمَّا دخلتَا على المضارع ضعفتْ مشابهته الاسم، فيَرجِع إلى الأصل الذي هو البناء فصار مبنيًّا.
ولتوكيد الفِعل المضارِع بهما حالات وأحكام أولها
(أ) - أولها وجوب توكيد الفِعل المضارع، وذلك إذا توافرتْ فيه الشروط التالية:
1- أن يكون المضارع مثبتًا.
2- أن يكون مسقبلاً.
3- أن يكون المضارع جوابًا لقَسَم.
4- أن يكون غيرَ مفصول عن لامِه بفاصل.
ويجب توكيدُ المضارع باللام والنون عندَ البصريِّين، مثل قوله تعالى: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ [الأنبياء: 57]، وخلوه مِن أحدهما شاذٌّ أو ضرورة، أمَّا الكوفيُّون فقد أجازوا الاكتفاءَ بأحدهما.
ويَمتنع توكيد المضارع بالنونين إنْ كان منفيًّا، نحو قوله تعالى: ﴿تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ [يوسف: 85]؛ إذ التقدير: (لا تفتأ)، ولعلَّ السر في هذا يرجِع إلى أنَّ بعض أدوات النفْي تخصُّ الفِعل الحالي مِثل (لا - ما) النافيتين، وذلك يُنافي التوكيدَ بالنونين، ومِن ثَمَّ عدم جواز التوكيد في هذه الحالة في جميعِ حالات النفي.
ولا يجوز توكيدُ الفِعل المضارع بهما إنْ كان الفعل يُفيد الحال، مِن ذلك قراءة ابن كثير (لَأُقْسِم بيوم القيامة) [سورة القيامة آية 1] ، وكقول الشاعر:
يَمِينًا لَأُبْغِضَ كُلَّ امْرِئٍ
يُزَخْرِفُ قَوْلاً وَلاَ يَفْعَلُ
والشاهِد في الآية الكريمة عدمُ توكيد الفِعل (أقسم)، وفي بيْت الشِّعر عدمُ توكيد الفِعل (أبغض) لأنَّهما فعلان حاليَّان؛ وذلك لأنَّ "الإقسام" و"البُغض" كلاهما موجود حال التكلُّم، ولا يُفيدان الاستقبال، وإنَّما امتنع توكيدُ المضارِع المقصود به الحال؛ لأنَّ نون التوكيد تُخلِّص الفعل للاستقبال، فإذا كان للحال كان في إلْحاق نونِ التوكيد به تناقُض.
ولا يجوز كذلك التوكيد إذا كان الفعلُ المضارع مفصولاً مِن اللام ، ومِن أمثلة الفصل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: 158].
فقد فُصِل بيْن اللام والفِعل بمعموله، واللام في "لئن" موطِّئة للقسم المحذوف، واللام في الأولى مؤكِّدة للجواب، وهو (تحشرون)، ومثلها قوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 5].
(ب)- وثانيها: أن يكون التوكيدُ قريبًا من الواجب: وذلك إذا كان شرطًا "لأن" المؤكِّدة بما الزائدة، نحو قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ [مريم: 26]، وقوله تعالى: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ﴾ [الزخرف: 41]، ومِنْ تَرْكِ توكيده قولُ الشاعر :
يَا صَاحِ إِمَّا تَجِدْنِي غَيْرَ ذِي جِدَةٍ
فَمَا التَّخَلِي عَنِ الخِلاَّن مِنْ شِيَمِي
فقد ترَك توكيد الفِعل "تجد" مع وقوعه شرطًا لـ"إن" المؤكّدة بما الزائدة، وهذا قليل، وقيل: ترك التوكيد للضرورة الشِّعريَّة.
(ج)- ثالثها: أن يكون التوكيد كثيرًا: وذلك إذا وقَع بعدَ أداة تُفيد الطلبَ حقيقةً، كالأمر والنهي والدعاء، والعرْض والتحضيض، والتمني والاستفهام، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا﴾ [إبراهيم: 42]، حيث أكّد الفعل بعد "لا" الناهية، وكقول الشاعر:
هَلاَّ تَمُنِّنْ بِوَعْدٍ غَيْرِ مُخْلِفِةٍ كَمَا عَهِدْتُكِ فِي أَيَّامِ ذِي سَلَمِ
حيث أكد (تمنّن) بنون التوكيد بعدَ أداة التحضيض (هلا)، وكقول الشاعر:
فَلَيْتَكِ يَوْمَ الْمُلْتَقَى تَرَيِنَّنِي
لَكَيْ تَعْلَمِي أَنِّي امْرُؤٌ بِكِ هَائِمُ
حيث أكّد الفعل (تريني) لوقوعه بعدَ أداة تُفيد التمنِّي (ليت)، وقول امرئ القيس :
قَالَتْ فُطَيْمَةُ حِلَّ شِعْرَكَ مَدْحَهُ
أَفَبَعْدَ كِنْدَةَ تَمْدَحَنَّ قَبِيلاَ
حيث أكْد الفعل (تمدحنَّ) لوقوعه في سياق الاستفهام.
(د) - رابعها: أن يكون التوكيد قليلاً: وذلك بعد "لا" النافية، و"ما" الزائدة، التي لم تُسبق بإن الشرطية، سواء أسُبقت بأداة شرْط نحو: حيثما تقعدن أقعد) أم لم تسبق، وبعد "لا": قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: 25].
وشاهد "ما" الزائدة التي لم تسبق بشرط قول الشاعر :
إِذَا مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ سَرَقَ ابْنُهُ
وَمِنْ عَضَّةٍ مَا يَنْبُتَنَّ شَكِيرُهَا
وكقول حاتم الطائي:
قَلِيلاً بِهِ مَا يَحْمَدَنَّكَ وَارِثٌ
إِذَا نَالَ مِمَّا كُنْتَ تَجْمَعُ مَغْنَمَا
(ه) - خامسها: أن يكونَ أقل: وذلك بعد "لم" وبعدَ أداة جزاء غير "إمَّا" كقول الشاعر (هو أبو حيَّان الفقعسي) يصف وطب لبن " سقاء لبن " علَتْ عليه رغوتُه حتى امتلأ:
يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَالَمْ يَعْلَمَا