الحجاج (
إرسال الحجاج إلى العراقلم يبق أمام أمير المؤمنين (عبد الملك بن مروان) ما يشغل باله بعد القضاء على (ابن الزبير) إلا بلاد العراق مهد الثورات ، وموطن الخارجين على الخلافة.
فنجد الكوفة لا تزال متأثرة بالدعوة الشيعية ، والبصرة هى مقر حركة الخوارج وثوراتهم المتتالية ، وذلك لعدم كفاية الولاة الذين عجزوا عن حفز همم أهل العراق ، والقضاء على الثائرين على الخلافة ، فكان (عبد الملك بن مروان) يرسل الوالي تلو الوالي إلى العراق، ولكن العراقيين كلما جاءهم وال استخفوا به، وإذا صعد المنبر رموه بالحصا، وازدادت البلوى بأن فر كثير من الجند ولحقوا بأهلهم.
ولم يكن (عبد الملك) يحب أن يقضى بأمر حاسم فى العراق طالما كان أخوه (بشر) واليا عليا وبينما كان (عبد الملك) يفكر فى أمر هذه البلاد ، وما آلت إليه من فوضى تهدد كيان ملكه ، إذ وافته الأنباء بوفاة أخيه (بشر) ، فكان موته مخرجا (لعبد الملك) مما كان يعانيه من حرج ، وفرصة ليسند إدارة هذه البلاد إلى عامل يستطيع أن يضع الأمور فى نصابها.
ولم يتردد (عبدالملك) فى إسناد ولاية العراق (للحجاج) فهو أفضل رجل لهذه المهمة الشاقة.
فكتب إليه بخطه: "أما بعد يا حجاج : فقد وليتك العراقين صدقة، فإذا قدمت الكوفة فطأها وطأة يتضاءل منها أهل البصرة، وإياك وهوينا الحجاز؛ فإن القائل هناك يقول ألفا، ولا يقطع بهن حرفا، وقد رميت العرض الأقصى، فارمه بنفسك، وأرد ما أردته بك، والسلام".
خطبته_القوية_فى_أهل_العراق
فلما قرأ (الحجاج) الكتاب، ترك المدينة إلى العراق، فقدم الكوفة في اثني عشر راكبا على النجائب، فبدأ بالمسجد فدخله، وهو متلثم بعمامة حمراء، متقلدا سيفا متنكبا قوسا يؤم المنبر ، فقال: علي بالناس ، فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم فقال الناس بعضهم لبعض قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي ألا أحصبه لكم فقالوا أمهل حتى ننظر فلما رأى عيون الناس إليه ، قام فكشف الغطاء عن وجهه فقال :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفونى
ثم قال : "يأهل الكوفة أما والله إني لأحمل الشر بحمله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله وإني لأري أبصارا طامحة وأعناقا متطاولة ورءوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى .....
إني والله يأهل العراق ومعدن الشقاق والنفاق ومساوي الأخلاق ما يقعقع(1) لي بالشنان(2) ولا يغمز جانبي كتغماز التين ولقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وجريت إلى الغاية القصوى وإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه فعجم (3)عيدانها فوجدني أمرها عودا وأصلبها مكسرا فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتن واضطجعتم في مراقد الضلال وسننتم سنن الغي أما والله لألحونكم لحو العصا ولأقرعنكم قرع المروءة ولأعصبنكم عصب السلمة(4) ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون وإني والله لا أعد إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق(5) إلا فريت(6) فإياي وهذه الشفعاء والزرافات والجماعات وقالا وقيلا وما تقول وفيم أنتم وذاك .....
أما والله لتستقيمن على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع (المهلب بن أبي صفرة) وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا سفكت دمه وأنهبت ماله وهدمت منزله.
بعد فراغ (الحجاج) من خطبته التى ذكرناها والتى رسم فيها سياسته قال : "يا غلام إقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين ، فقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الملك بن مروان إلى من بالكوفة من المسلمين ، سلام عليكم " فلم يرد أحد السلام
فقال الحجاج : "اقطع يا غلام" ثم قال مغضبا : "يا أهل العراق يا عبيد العصا ، يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا يرد راد منكم السلام ، أما والله لأءدبنكم غير هذا الأدب ، إقرأ يا غلام"
فلما وصل إلى السلام ، لم يبق أحدا بالمسجد إلا وقال : وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.
وبعد فراغه من تلاوة الكتاب ، قال : قوموا إلى بيعتكم ، فقامت القبائل قبيلة قبيلة تبايع ، وهو يستفهم عن كل قبيلة تتقدم إليه.
بعض المعانى :
(1) - القعقعة : تحريك الشيئ اليابس الصلب مع صوت مثل السلاح.
(2) - الشنان : جمع شن وهى القربة البالية يحركونها إذا أرادوا حث الأبل على السير.
(3) - عجم : اختبرها ليعرف صلابتها من ضعفها.
(4) - السلمة : شجر كثير الشوك.
(5) - الخلق : التقدير.
(6) - فريت : قطعت.
يتبع ...........
المصادر :
- الحجاج المفترى عليه
- أبراج الزجاج فى سيرة الحجاج
- تاريخ الأمم
- البداية والنهاية